فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه القاعدة ذكرها ابن هشام الأنصاري في «مغني اللبيب» في الباب السادس، فقال: يقولون: «النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى، وإذا أعيدت معرفة، أو أعيدت المعرفة معرفة أو نكرة كانت الثانية عين الأولى»، ثم ذكر أنّ في القرآن آيات تَرُدّ هذه الأحكام الأربعة كقوله تعالى: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوةً ثم جعل من بعد قوة ضعفًا} [الروم: 54] وقوله: {أن يصّالحا بينهما صلحًا والصلح خير} [النساء: 128] {زدناهم عذابًا فوق العذاب} [النحل: 88] والشيء لا يكون فوق نفسه {أن النَّفْس بالنفس} [المائدة: 45] {يسألك أهل الكتاب أن تُنَزّل عليهم كتابًا من السماء} [النساء: 153]، وأنّ في كلام العرب ما يردّ ذلك أيضًا.
والحقّ أنّه لا يختلف في ذلك إذا قامت قرينة على أنّ الكلام لتعريف الجنس لا لتعريف العهد، كما هنا.
وقد تقدّم القول في إعادة المعرفة نكرة عند قوله تعالى: {وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة} في [سورة البقرة: 193].
ويأتي عند قوله تعالى: {وقالوا لولا نزّل عليه آية من ربّه} في سورة [الأنعام 37].
وقوله: {خير} ليس هو تفضيلًا ولكنّه صفة مشبّهة، وزنه فَعْل، كقولهم: سَمْح وسَهْل، ويجمع على خيور.
أو هو مصدر مقابل الشرّ، فتكون إخبارًا بالمصدر.
وأمّا المراد به التفضيل فأصل وزنه أفْعَل، فخفّف بطرح الهمزة ثم قلب حركته وسكونه.
جمعه أخيار، أي والصلح في ذاته خير عظيم.
والحمل على كونه تفضيلًا يستدعي أن يكون المفضّل عليه هو النشوز والإعراض، وليس فيه كبير معنى.
وقد دلّت الآية على شدّة الترغيب في هذا الصلح بمؤكّدات ثلاثة: وهي المصدر المؤكّد في قوله: {صلحًا}، والإظهارُ في مقام الإضمار في قوله: {والصلح خير}، والإخبار عنه بالمصدر أو بالصفة المشبهة فإنّها تدلّ على فعلِ سَجية. اهـ.

.قال الفخر:

قال صاحب الكشاف: هذه الجملة اعتراض، وكذلك قوله: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} إلاّ أنه اعتراض مؤكد للمطلوب فحصل المقصود. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} إخبار بأن الشح في كل أحد.
وأن الإنسان لابد أن يشح بحكم خلقته وجِبلّته حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره؛ يقال: شَحّ يَشِح (بكسر الشين) قال ابن جُبير: هو شُحّ المرأة بالنفقة من زوجها وبقَسْمه لها أيامها.
وقال ابن زيد: الشح هنا منه ومنها.
وقال ابن عطية: هذا أحسن؛ فإن الغالب على المرأة الشح بنصيبها من زوجها، والغالب على الزوج الشّحّ بنصيبه من الشّابّة.
والشّح الضبط على المعتقَدات والإرادة وفي الهمم والأموال ونحو ذلك، فما أُفرط منه على الدين هو محمود، وما أفرط منه في غيره ففيه بعض المذمّة، وهو الذي قال الله فيه: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} [الحشر: 9 التغابن: 16].
وما صار إلى حَيِّز منع الحقوق الشرعية أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل وهي رذيلة.
وإذا آل البخل إلى هذه الأخلاق المذمومة والشيم اللئيمةِ لم يبق معه خير مرجوّ ولا صلاح مأمول.
قلت: وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: «من سيِّدكم»؟ قالوا: الجَدّ بن قيس على بُخْل فيه.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «وأيّ داء أدْوَى من البخل» قالوا: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: «إن قومًا نزلوا بساحل البحر فكرهوا لبخلهم نزول الأضياف بهم فقالوا ليبعد الرجال منا عن النساء حتى يعتذر الرجال إلى الأضياف ببعد النساء وتعتذر النساء ببعد الرجال، ففعلوا وطال ذلك بهم، فاشتغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء» وقد تقدّم، ذكره الماوردِي. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله تعالى: {وأحضرت الأنفس الشح} معذرة عن عبيده تعالى أي لابد للإنسان بحكم خلقته وجبلته من أن يشح على إرادته حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره، وخصص المفسرون هذه اللفظة هنا فقال ابن جبير: هو شح المرأة بالنفقة من زوجها وبقسمه لها أيامها، وقال ابن زيد: الشح هنا منه ومنها.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: وهذا حسن، و{الشح}: الضبط على المعتقدات والإرادات الهمم والأموال ونحو ذلك، فما أفرط منها ففيه بعض المذمة، وهو الذي قال تعالى فيه: {ومن يوق شح نفسه} [الحشر: 9] وما صار إلى حيز منع الحقوق الشرعية أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل، وهي رذيلة لكنها قد تكون في المؤمن، ومنه الحديث: «قيل يا رسول الله أيكون المؤمن بخيلًا؟ قال نعم» وأما {الشح} ففي كل أحد، وينبغي أن يكون، لكن لا يفرط إلا على الدين، ويدلك على أن الشح في كل أحد قوله تعالى: {وأحضرت الأنفس الشح} وقوله: {شح نفسه} فقد أثبت أن لكل نفس شحًا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أن تصدق وأنت صحيح شحيح» وهذا لم يرد به واحدًا بعينه، وليس يجمل أن يقال هنا: أن تصدق وأنت صحيح بخيل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ومعنى {وأحضرت الأنفس الشحّ} ملازمة الشحّ للنفوس البشرية حتّى كأنّه حاضر لديها.
ولكونه من أفعال الجبلّة بُني فعله للمجهول على طريقة العرب في بناء كلّ فعل غير معلوممِ الفاعل للمجهول، كقولهم: شُغف بفلانة، واضطُرّ إلى كذا.
ف«الشحّ» منصوب على أنّه مفعول ثان لـ {أحضرِت} لأنّه من باب أعطَى.
وأصل الشحّ في كلام العرب البخل بالمال، وفي الحديث: «أنْ تَصْدّقَ وأنت صحيح شحيح تخشَى الفقر وتأمل الغنى» وقال تعالى: {ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9] ويطلق على حرص النفس على الحقوق وقلّة التسامح فيها، ومنه المشاحّة، وعكسه السماحة في الأمرين.
فيجوز أن يكون المراد بالصلح في هذه الآية صلح المال، وهو الفدية.
فالشحّ هو شحّ المال، وتعقيب قوله: {والصلح خير} بقوله: {وأحضرت الأنفس} على هذا الوجه بمنزلة قولهم بعد الأمر بما فيه مصلحة في موعظة أو نحوها: وما إخالك تفعل، لقصد التحريض.
ويجوز أن يكون المراد من الشحّ ما جبلت عليه النفوس: من المشاحّة، وعدم التساهل، وصعوبة الشكائم، فيكون المراد من الصلح صلح المال وغيره، فالمقصود من تعقيبه به تحذير الناس من أن يكونوا متلبّسين بهذه المشاحّة الحائلة دون المصالحة.
وتقدّم الكلام على البخل عند قوله تعالى: {ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله} في سورة [آل عمران 180].
وقد اشتهر عند العرب ذمّ الشحّ بالمال، وذمّ من لا سماحة فيه، فكان هذا التعقيب تنفيرًا من العوارض المانعة من السماحة والصلح، ولذلك ذيّل بقوله: {وإن تحسنوا وتتّقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا} لما فيه من الترغيب في الإحسان والتقوى. اهـ.

.قال الفخر:

إنه تعالى ذكر أولًا قوله: {فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا} فقوله: {لاَّ جُنَاحَ} يوهم أنه رخصة، والغاية فيه ارتفاع الإثم، فبيّن تعالى أن هذا الصلح كما أنه لا جناح فيه ولا إثم فكذلك فيه خير عظيم ومنفعة كثيرة، فإنهما إذا تصالحا على شيء فذاك خير من أن يتفرقا أو يقيما على النشوز والإعراض، أما قوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} فأعلم أن الشح هو البخل، والمراد أن الشح جعل كالأمر المجاور للنفوس اللازم لها، يعني أن النفوس مطبوعة على الشح، ثم يحتمل أن يكون المراد منه أن المرأة تشح ببذل نصيبها وحقها، ويحتمل أن يكون المراد أن الزوج يشح بأن يقضي عمره معها مع دمامة وجهها وكبر سنها وعدم حصول اللذة بمجانستها. اهـ.
قال الفخر:
فيه وجوه: الأول: أنه خطاب مع الأزواج، يعني إن تحسنوا بالإقامة على نسائكم وإن كرهتموهن وتيقنتم النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة فإن الله كان بما تعملون من الإحسان والتقوى خبيرًا، وهو يثيبكم عليه.
الثاني: أنه خطاب للزوج والمرأة، يعني وأن يحسن كل واحد منكما إلى صاحبه ويحترز عن الظلم.
الثالث: أنه خطاب لغيرهما، يعني أن تحسنوا في المصالحة بينهما وتتقوا الميل إلى واحد منهما.
وحكى صاحب الكشاف: أن عمران بن حطان الخارجي كان من أدم بني آدم، وامرأته من أجملهم، فنظرت إليه يومًا ثم قالت: الحمد لله، فقال مالك؟ فقالت حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، وقد وعد الله بالجنة عباده الشاكرين والصابرين. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ} شرط {فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} جوابه.
وهذا خطاب للأزواج من حيث أن للزوج أن يشِح ولا يحسن؛ أي إن تحسنوا وتتقوا في عشرة النساء بإقامتكم عليهنّ مع كراهيتكم لصحبتهنّ واتقاء ظلمهن فهو أفضل لكم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا} ندب تعالى إلى الإحسان في العشرة على النساء وإن كرهن مراعاة لحق الصحبة، وأمر بالتقوى في حالهن، لأنّ الزوج قد تحمله الكراهة للزوجة على أذيتها وخصومتها لاسيما وقد ظهرت منه أمارات الكراهة من النشوز والإعراض.
وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم بهنّ «فإنهنّ عوان عند الأزواج».
وقال الماتريدي: وإنْ تحسنوا في أن تعطوهنّ أكثر من حقهنّ، وتتقوا في أنْ لا تنقصوا من حقهن شيئًا.
أو أن تحسنوا في إيفاء حقهنّ والتسوية بينهنّ، وتتقوا الجور والميل وتفضيل بعض على بعض.
أو أن تحسنوا في اتباع ما أمركم الله به من طاعتهنّ، وتتقوا ما نهاكم عنه عن معصيته انتهى.
وختم آخر هذه بصفة الخبير وهو علم ما يلطف إدراكه ويدق، لأنه قد يكون بين الزوجين من خفايا الأمور ما لا يطلع عليه إلا الله تعالى، ولا يظهران ذلك لكل أحد. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِن تُحْسِنُواْ} في العشرة مع النساء {وَتَتَّقُواْ} النشوز والإعراض وإن تظافرت الأسباب الداعية إليهما وتصبروا على ذلك ولم تضطروهن على فوت شيء من حقوقهن، أو بذل ما يعز عليهن.
{فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الإحسان والتقوى أو بجميع ما تعملون، ويدخل فيه ما ذكر دخولًا أوليًا {خَبِيرًا} فيجازيكم ويثيبكم على ذلك، وقد أقام سبحانه كونه عالمًا مطلعًا أكمل اطلاع على أعمالهم مقام مجازاتهم وإثابتهم عليها الذي هو في الحقيقة جواب الشرط إقامة السبب مقام المسبب، ولا يخفى ما في خطاب الأزواج بطريق الالتفات، والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان، ولفظ التقوى المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه، وترتيب الوعد الكريم على ذلك من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا}.